عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ( اشْتَرَى رَجُلٌ مِنْ رَجُلٍ عَقَارًا لَهُ، فَوَجَدَ
الرَّجُلُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ فِي عَقَارِهِ جَرَّةً فِيهَا
ذَهَبٌ،فَقَالَ لَهُ الَّذِي اشْتَرَى الْعَقَارَ: خُذْ ذَهَبَكَ مِنِّي
إِنَّمَا اشْتَرَيْتُ مِنْكَ الأَرْضَ وَلَمْ أَبْتَعْ مِنْكَ الذَّهَبَ،
وَقَالَ الَّذِي لَهُ الأَرْضُ: إِنَّمَا بِعْتُكَ الأَرْضَ وَمَا فِيهَا،
فَتَحَاكَمَا إِلَى رَجُلٍ؛ فَقَالَ الَّذِي تَحَاكَمَا إِلَيْهِ:
أَلَكُمَا وَلَدٌ؟ قَالَ أَحَدُهُمَا: لِي غُلامٌ. وَقَالَ الآخَرُ: لِي
جَارِيَةٌ. قَالَ: أَنْكِحُواالْغُلامَ الْجَارِيَةَ, وَأَنْفِقُوا عَلَى
أَنْفُسِهِمَا مِنْهُ, وَتَصَدَّقَا..)
متفق عليه
تفاصيل القصّة
يصطرع الناس فتات الدنيا ، وتنشب بينهم الخلافات ، ثم ينتهي الأمر إلى
الازدحام عند أبواب المحاكم ، والوقوف أمام القضاء ، ليُدلي كلٌ بحجّته ،
ويقدّم أدلّته ، مدّعياً أنه صاحب الحق ، وأن خصمه يريد سلبه ونهبه ، وأخذ
ما ليس له .
مشهدٌ مألوف وموقف معتاد يتكرّر يوميّاً في دنيا الناس ، لكنّ العجب كلّ
العجب أن ينشأ الخلاف ويحتد النقاش بين رجلين ، حتى تتعالى أصواتهما ،
ويترافعا عند القاضي ،ليقول كلّ واحد منهما : " إن خصمي هو صاحب الحقّ ،
وإنه يريد أن يعطيني ما ليس لي " فحقّ للعقل حينها أن تعصف به الحيرة
وتأخذه الدهشة .
وليس الحديث عن ذلك من نسج الخيال أو إلهام الفكر ، ولكنّه نموذجٌ فريد
وبارقة نجمٍ في سماء الحضارات السابقة ، لرجال تسوّروا العزّ وتبوّؤوا
المجد ، حينما صاغهم الدين وربّاهم الأنبياء ، فطهرت سرائرهم ، واستقامت
ظواهرهم .
وكانت البداية حينما أراد رجلٌ أن يبيع عقاراً له ، فبحث عن مشترٍ له ، حتى
أبدى أحدهم إعجابه بالعقار واستعداده لنقد الثمن ، فتمّ البيع وعُقدت
الصفقة .
وانتقل المشتري إلى عقاره الجديد فرحاً به ، فجعل يهيّئه ويعدّه للسكنى ،
وبينما كان يقوم بالحفرفي أحد نواحي داره إذا بفأسه تصطدم بجرّة ، ولمّا
أخرجها وجدها مملوءةً ذهباً ،تثقل اليد عن حملها ، إنها جرّة تُؤذن بوداع
حياة الفقر ، وتكفل لصاحبها أن يكون في مصافّ الأغنياء ، ليهنأ بالعيش
الرغيد ، والنعمة الواسعة ، والرفاهية المطلقة .
لكنّ نوازع الأمانة ومعاني الورع كانت أعظم في نفسه ، فلم يلتفت إلى بريق
الذهب ولمعانه ، بلكان شغله الشاغل أن يُرجع المال لصاحبه ، وهكذا انطلق من
لحظته ليدفع له الجرّةقائلا : ( خذ ذهبك مني ؛ إنما اشتريت منك الأرض ولم
أبتع منك الذهب! ) .
وإذاكانت أمانة هذا الرّجل وقناعته مثار إعجاب ومحطّ استحسان ، فإن العجب
يتعاظم من موقف صاحبه الذي أعاد له المال قائلاً : ( إنما بعتك الأرض وما
فيها ) .
وقام الرجلان يتدافعان الجرّة ، كلٌّ يدّعي أن صاحبه أحقّ بها ، وبعد نقاشٍ
دام طويلاً اتفقا على أن يُحكّما بينهما رجلاً ، فوقفا بين يديه ، وعرض
الأوّل وجهة نظره ،وعرض الثاني رأيه وقوله .
نظر الحَكَم إليهما مُعجباً بسموّ أخلاقهما وعظيم نبلهما ، ورأى أن هذه
النماذج الفريدة جديرةٌ بأن يلتئم شملها تحت مظلّة واحدة ، تربط بينها
أواصر النسب ووشائج المصاهرة ، وقد وجد بغيته حينما علم أن للأوّل غلاماً
وللثاني جارية لم يتزوّجا بعد ، فأصدر حكمه : ( أنكحوا الغلام الجارية ،
وأنفقوا على أنفسهما منه ، وتصدّقا ) .
وقفات مع القصّة
تبقى القصة بكل أبعادها وأحداثها ، وألفاظها ومدلولاتها تشكّل سِفْراً مفتوحاً لكل قاريء ليأخذ منها الدروس ويستلهم منها العبر .
وأوّل ما يلفت النظر ويشدّ الانتباه ، خلق القناعة الذي ظهر في الأوّل ،
ومعاني العفّة والتنزّه التي بدت عند الثاني ، ثم الحكم الذي يظهر فيه حسن
الفهم وسداد الرأي عند الثالث ، حتى يحار المرء : أيّهم أفضل من الآخر .
كما يظهر في القصّة ما تعود به القناعة على صاحبها من الخير والبركة ، فهي
كنزٌ لا يفنى ، وذخيرةٌ لا تنضب ،والنبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: (
ليس الغنى عن كثرة العَرَض – أي : متاع الدنيا - ولكن الغنى غنى النفس )
رواه البخاري ، ويقول أيضاً : ( وارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس )
رواه الترمذي .
وفي ألفاظ القصّة دعوة ضمنيّةٌ للناس إلى أداء الأمانات وإرجاع الودائع ،
وهي قضيّة تناولهاالقرآن وأكّد على أهمّيتها في قول الحقّ سبحانه : { إن
الله يأمركم أن تؤدواالأمانات إلى أهلها } ( النساء : 58 ) .
وآخر ما نختم به دلالة القصّة على إمكانيّة الاحتكام إلى من كان ذا حظّ من العلم والعقل ، ما يعينه على تحقيق العدل وإصابة الحقّ.
...مماراق لي ...