منتديات حبيب حياتي
غْـِـِـِيْـِـِـِر مُـِـِـِسَـِـِـِِجَـِـِـِل

لأنـنـآ نـعـشـقِ التـميز والـِمُـِمَـِيّـزِيْـטּ يشرفنـآ إنـظمـآمڪ معنـآ فيـﮯ مـنـتـديات | حبيب حياتي |

أثبـت تـوآجُـِدڪ و ڪـטּ مـטּ [ الـِمُـِمَـِيّـزِيْـטּ ..!

لـِڪي تـسـتـطـيـع أن تُـِتْـِِבـفَـِنَـِـِا [ بـِ موآضيعـڪ ومشارڪاتـڪ معنـِـِـِآ ]


منتديات حبيب حياتي
غْـِـِـِيْـِـِـِر مُـِـِـِسَـِـِـِِجَـِـِـِل

لأنـنـآ نـعـشـقِ التـميز والـِمُـِمَـِيّـزِيْـטּ يشرفنـآ إنـظمـآمڪ معنـآ فيـﮯ مـنـتـديات | حبيب حياتي |

أثبـت تـوآجُـِدڪ و ڪـטּ مـטּ [ الـِمُـِمَـِيّـزِيْـטּ ..!

لـِڪي تـسـتـطـيـع أن تُـِتْـِِבـفَـِنَـِـِا [ بـِ موآضيعـڪ ومشارڪاتـڪ معنـِـِـِآ ]


منتديات حبيب حياتي
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.



 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول
*** اهلآ وسهلآ بكم احبائي في منتديات حبيب حياتي ***
***ادارة حبيب حياتي تفتح باب الاشراف على كل من يجد بنفسه الرغبه في احتلال المنصب ***

 

 رواية يا قاتلي، أين المفر...؟)

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
امير البصري
مؤسس المنتدى
مؤسس المنتدى
امير البصري


الدولة : غير معروف
العذراء عدد المشـاركات : 1765
التـقيم : 107

الـقوة : 4
رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) Left_bar_bleue30 / 10030 / 100رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) Right_bar_bleue

تاريخ التسجيل : 15/02/2012
العمر : 35
الموقع : حبيب حياتي
۩ خدمة mms ۩ : رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) 128879
الاوسمة : لا يوجد
المزاج المزاج : دموع الحب أجمل إذا هي وجدت من يمسحها

رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) Empty
مُساهمةموضوع: رواية يا قاتلي، أين المفر...؟)   رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) Emptyالخميس 15 مارس 2012 - 0:59


الجــــــــــزء الأول







رفع نبيل القاسمي سماعة الهاتف، و بدا على وجهه الارتياح و هو يستمع إلى صوت مخاطبه :
ـ أهلا نجيب... نعم... نعم... لقد جهزت كل شيء لاستقبال ليلى... اطمئن...
فراس؟... أعلم أنه شديد الحساسية... ربما لن يتقبل الأمر بسهولة في
البداية، لكنني سأكون إلى جانبها... لا داعي للقلق... دعني أتصرف...

في تلك اللحظة ترامى إلى مسامعه صوت منبه سيارة في الحديقة الخارجية للقصر... فتطلع من النافذة قبل أن يستطرد :
ـ لقد وصلت السيارة... سأحدثك لاحقا...

وضع السماعة و عدل سترته ثم خطا بثقة نحو البهو...

توقفت سيارة رياضية فاخرة أمام الباب الرئيسي للقصر، بعد أن عبرت الممر
الطويل الممهد، المؤدي إلى البوابة الخارجية... نزلت الراكبة الوحيدة ليلى
كامل في حركة رشيقة... تناولت حقيبة يدها ثم سلمت الخادم الذي تقدم إليها
مفاتيح السيارة... ألقت نظرة فاحصة على الحديقة الخلابة فاسترعت انتباهها
ورود حمراء آسرة جعلت ابتسامة خفيفة ترتسم على شفتيها، ثم استدارت لتتأمل
واجهة المبنى الشامخ المنتصب أمامها، و قد لاحت في عينيها علامات الدهشة و
الإعجاب... لكنها ما لبثت أن ابتسمت في ثقة و هي تسوي حجابها و تقدمت بخطى
ثابتة لتصعد درجات السلم الحجري المؤدي إلى المدخل... انحنى أمامها الخادم
العجوز ثم سبقها إلى الداخل...

كان بهو الاستقبال عبارة عن صالة فخمة ذات أثاث كلاسيكي قديم، وزعت قطعه
بذوق و براعة في نظام جذاب... تتوسط القاعة زربية فارسية ذات رسوم و زخارف
متناسقة، ألوانها شاحبة تحاكي ألوان الخريف... و في صدر المجلس تربعت أريكة
ضخمة من خشب الأبنوس، خمنت على الفور أنها من طراز لويس الرابع عشر، تحيط
بها مقاعد من نفس النوع، بنفس الزخرفة الثقيلة... و في المقابل كانت هنالك
منضدة زجاجية متوسطة الحجم من الإبداع الصيني، لا تخطئ العين ألوانها
المميزة... انجذبت عيناها تجاه مزهرية بلورية تراصت فيها نفس الورود
الحمراء التي لمحتها منذ قليل في الحديقة، تضفي على جو القاعة رونقا
فريدا... و على مساحة الحائط، امتدت لوحة فنية تمثل غابة كثيفة مظلمة في
شتاء قارس... و على قدر ما أعجبت بالمهارة الفنية الواضحة في ثنايا اللوحة،
على قدر ما أصابت قلبها بالوحشة و الوحدة و ذكرتها بوضعها... و بالأيام
القليلة الماضية من حياتها...

تنهدت في أسى و هي تستدير لتقع نظراتها على الجزء الثاني من البهو الذي كان
مناقضا تماما للأول... أثاث عصري بسيط، ذو ألوان زاهية... بساط صغير بديع،
و منضدة طويلة نسقت فوقها أعداد من التحف الصغيرة الظريفة، استقرت خلفها
مرآة عاجية، طالعت فيها صورتها ثم ابتسمت في رضا و تألقت عيناها
الكستنائيتان ببعض الغرور... على عرض الحائط المقابل توزعت لوحات صغيرة
متناثرة تمثل مشاهد طبيعية مشرقة...

ابتسمت ليلى و هي تلقي نظرة أخيرة على الجانبين و تلحظ في صمت المفارقات
العجيبة التي اجتمعت في فضاء واحد... زوجان مختلفا المزاج؟ ربما... انتبهت
إلى السيد نبيل الذي نزل للتو و وقف على بعد بضع خطوات منها يتأملها في صمت
و على شفتيه ابتسامة ودودة... تقدمت منه، عانقته في حرارة متكلفة و تبادلا
عبارات الترحيب...

و ماهي إلا لحظات حتى سمعت ضوضاء قادمة من الطابق الأول، ثم ظهر شابان
ينزلان الدرج في بعض الهرج... انضما إلى السيد نبيل و ليلى التي غضت بصرها
في حياء... وقفا غير بعيد عنهما، و بادر السيد نبيل معرفا :
ـ هذه ليلى... ابنة عمتكما نجاة... رحمها الله... و صديقي العزيز نجيب...
تعلمان أنها ستقيم بيننا ـ طيلة فترة سفر والدها للإشراف على مشروعه الجديد
ـ أرجو أن ترحبا بها جيدا... و تعتبراها مثل شقيقة لكما...

ثم التفت إلى ليلى متابعا :
ـ أرجو يا ابنتي أن تجدي راحتك بيننا...

طالعها الشابان بنظرات متفحصة... كانت فتاة قد تجاوزت العشرين من عمرها
بسنتين اثنتين، مليئة بالحيوية و متقدة الذكاء... تلمحه في نظراتها
الهادئة، المتحدية، و ابتسامتها الرقيقة التي لا تفارق شفتيها... و لم يكن
الجمال ليبخل عليها بقدر وافر منه...

ـ هذا ابني الأكبر... ياسين...

كان ياسين رجلا ضخم الجثة، فارع الطول متين البنيان، تظنه أحد المصارعين
المحترفين. و بدا أنه قد تجاوز الثلاثين من عمره ببضع سنوات، تدل هيأته على
حياة الرفاهية التي يعيشها دون عناء أو تكلف.

انتبه ياسين، الذي كان يطالع ليلى بنظرات فاحصة، على صوت والده و هو يسأله :
ـ أين زوجتك؟

أجاب في امتعاض :
ـ منال؟... أخذت رانيا و ذهبت في زيارة إلى بيت أهلها...

هز السيد نبيل رأسه متفهما، في حين تقدم ياسين من ليلى و هو يمد يده مصافحا، دون أن تفارق عينيه تلك النظرة الجريئة :
ـ أهلا ليلى... تشرفت بمعرفتك...

لم تكن ليلى ترغب في المصافحة... لكنها بعد تردد قصير مدت يدها لتصافحه في
خجل... ابن خالها الذي تراه للمرة الأولى... ليس من اللائق أن تستفزه منذ
اللحظات الأولى. هكذا أقنعت نفسها!

ـ و هذا أمين... ابني الأصغر...

قاطعه أمين بحركة مفاجئة و هو يتقدم نحو ليلى و ينحني أمامها انحناءة
عريضة، ثم يهم بالتقاط يدها على طريقة الجنتلمان في القرن التاسع عشر! لكن
ردة فعل ليلى كانت أسرع من حركته، فسحبت يدها في حدة و ألقت عليه نظرة
صارمة... لكن أمين ابتسم في لباقة، رغم الإحراج الذي تعرض إليه للتو، و
تابع في غير اهتمام :
ـ أعرفك بنفسي... أنا أمين... الابن الأصغر لعائلة القاسمي... و أنا الأكثر
انطلاقا و مرحا في العائلة... يعرفني الجميع بلباقتي مع الجميلات و خبرتي
في العلاقات الاجتماعية... طالب هندسة في الصف الثالث... أظن لا يهمك أن
تعرفي إن كنت قد رسبت سنتين أو ثلاثا... على أية حال، يسرني وجودك بيننا...
لا شك أنك لاحظت المحيط الرجالي الذي يسكن هذا البيت... و أرجو أن تضيفي
إلى حياتنا نوعا من التغيير بعد أن أصابنا الروتين و الملل...

كان أمين فتى جذابا بأتم معنى الكلمة، و كان من الواضح أنه يدرك مدى وسامته
خاصة حين يقف جنبا إلى جنب مع ياسين الذي كانت ملامحه عادية و خالية مما
يثير انتباه الجنس الآخر... كما أن أمين كان لا يزال في بداية شبابه، لا
يتجاوز عمره الأربع و العشرين سنة، و في نظراته الكثير من الثقة... و
الغرور!

رمقه ياسين بازدراء في حين رماه نبيل بنظرة غاضبة أوقفته... أما ليلى فإنها
اكتفت بإشاحة وجهها عنه و في عينيها الكثير من الاستغراب و الامتعاض. أما
أمين فابتسم و هو يلوح بيده استهانة :
ـ هل قمت بشيء غريب؟ لقد رحبت بابنة عمتي على طريقتي!

ثم أضاف في صوت خافت، لكنه تناهى إلى مسامع ليلى :
ـ لو كان فراس هنا... لكان الموقف أكثر إثارة...

تسارعت دقات قلب ليلى و هي تسترجع ما ذكره لها والدها من معلومات عن
العائلة... و من دون كل أفراد عائلة القاسمي، كانت متشوقة للقاء فراس...

نظر أمين إلى الخادم العجوز بعد أن انصرف والده و قال متسائلا :
ـ هل أخطأت يا عم صابر؟

ابتسم العم صابر و هي يخفض رأسه في ارتباك و لم يجب

قطع نبيل الصمت و هو ينادي الخادم من الغرفة الداخلية، حيث اختفى منذ لحظات :
ـ صابر... احمل حقائب الآنسة إلى الغرفة المعدة لها... و اتركها لتستريح قليلا...

خرج الخادم ليحضر الحقائب التي كانت عند أسفل الدرج الحجري، و ما لبث أن
عاد مسرعا و تقدم ليلى إلى السلم المؤدي إلى الطابق الأول، من حيث نزل
ياسين و أمين قبل بضعة دقائق... تبعته ليلى في خطوات رزينة، تتبعها النظرات
بانطباعاتها المختلفة...


********


تقدمت ليلى في الممر المفروش بالزرابي و المزدان بالثريات متدلية من السقف.
كانت الفوانيس الصغيرة و المتلاصقة تضفي على المكان ضوءا خافتا ذا لون
أصفر ساحر...
على الجانبين علقت صور لأفراد العائلة و رسومات حائطية...

راحت تتأملها و هي تتبع العم صابر بخطوات هادئة... فجأة توقفت أمام صورة
فتاة في مثل سنها تقريبا، أو تصغرها بسنوات قليلة... و بدا لها أنها تطالع
صورتها هي، ليلى، منذ بضع سنين مضت! نعم، فالشبه بينهما مما لا يختلف فيه
اثنان!

تسارعت دقات قلبها و كست ملامحها تعابير غريبة، لم تدرك هي نفسها كنهها...
لكنها سرعان ما تمالكت نفسها و سارعت الخطو لتلحق بالعم صابر الذي توقف
أمام غرفة في نفس الممر...

حين خطت إلى داخل الغرفة المعدة لها وجدت نفسها في عالم جديد غاية في
الروعة... كان أول ما لفت نظرها هو ورق الجدران الأزرق السماوي المحلى
برسوم رقيقة بيضاء. لون هادئ و مريح جعلها تبتسم في رضا و هي تتقدم لتضع
حقيبتها على البساط. كان أثاث الغرفة في غاية الأناقة و البساطة... شديدة
الاختلاف عن غرفتها السابقة، في منزلها... فراش كبير على الطراز الأمريكي
الحديث، منضدة تحمل مختلف أنواع العطور و أدوات الزينة، مرآة عاجية، و
مصابيح صغيرة ترسل نورا أزرق سماويا... و في الجهة المقابلة، صوان ملابس
مصنوع من خشب الأرز الأبيض و مكتب صغير... و مع كل هذا، شرفة تطل على
الحديقة! تأمات غرفتها "الخاصة" في انبهار، ثم ألقت بنفسها على السرير
الوثير الناعم و تنفست الصعداء... أغلقت عينيها و غرقت في لجة أفكارها...
كم ستبقى هنا يا ترى؟ أملها أن تنتهي رحلة والدها بأسرع ما يمكن و تعود
لتسكن معه في بيتهما الصغير في فرنسا...

لم تدرك كم مضى عليها من الوقت و هي مستلقية في تلك الوضعية المريحة و
مستسلمة لأفكارها... لكنها انتبهت على صوت طرق خفيف على الباب... فتحت
عينيها و استقامت في مجلسها. تناهى إليها صوت رجالي يقول :
ـ ليلى... هل يمكنني الدخول؟

فزعت و قامت لتسوي حجابها أمام المرآة و هي تتساءل : من؟

ـ أنا أمين... هل أنت نائمة؟

توجهت نحو الباب و فتحته ليطالعها وجه أمين المبتسم... كان قد ورث عن والده
عينيه السوداوين العميقتين و شعره الأسود الناعم... و عن والدته المتوفاة
البشرة البيضاء الصافية و الغمازة في الذقن، مع أنف مستقيم حاد... ملامحه
تشي بالحدة و التحفز، لكنه بدا ودودا إلى أبعد الحدود... خطا إلى الداخل
دون كلفة، في حين اتسعت عينا ليلى في دهشة و استهجان، لكنها لم تنطق
بكلمة...

نظر إلى الحقيبة التي كانت لا تزال في موضعها. جلس ببساطة على المقعد
المواجه للمكتب واضعا ساقا على أخرى، و تكلم كمن يخاطب صديقا حميما :
ـ أرى أنك لم تستقري في غرفتك بعد‍! فالحقيبة لم تفرغ... و أنت لم تغيري ثيابك...

وقف برشاقة فارعا طوله ثم أجال بصره في الغرفة مضيفا :
ـ أنت محظوظة لحصولك على هاته الغرفة... فهي كانت غرفة المالكة الأولى
للقصر... زوجة أبي الأولى... والدة ياسين... صحيح أنه تم تجديد الأثاث،
بالكامل تقريبا... لكن الغرفة تحافظ على طابعها الخاص و الغامض...

كانت تجيل نظراتها في أرجاء الغرفة و هي توافقه في قرارة نفسها على غموض
طابعها و رونقها الفريد من نوعه... نظرت إليه فجأة حين أحست بعينيه تستقران
على وجهها في إصرار
ـ لا أظنني سأقول شيئا جديدا عنك... لكنك يا ابنة عمتي في غاية الجمال!

تراجعت مبغوتة من هذا الغزل الصريح فاستدرك متابعا :
ـ أرجو أن لا تتضايقي من صراحتي... فقد اعتدت التعبير المباشر عما يجول في خاطري...

اتسعت ابتسامته، أمام احمرار وجهها، و همس :
ـ لا تتأخري عن موعد العشاء بعد نصف ساعة... أراك لاحقا!

تقدم نحو الباب بمثل البساطة التي دخل بها... و قبل أن يتوارى عن ناظريها، أطل برأسه من فتحة الباب و همس :
ـ فراس سيكون معنا على العشاء... كوني حذرة!

وقفت للحظات مبهوتة... كانت تحس بالضيق... فمن الواضح أنها ستواجه الكثير
من المتاعب حتى توقف أمين عند حده و تفرض عليه احترامها... ثم تاهت أفكارها
في ملاحظته الأخيرة... لكنها ما لبثت أن هزت كتفيها في لامبالاة و شرعت في
توضيب ملابسها في الصوان بتأن. غيرت ملابسها و غادرت الغرفة... و لم تستطع
مقاومة رغبة ملحة في النظر ثانية لصورة الفتاة التي تشبهها المعلقة في
الممر...

نزلت درجات السلم في هدوء و هي تنظر إلى البهو من عل... فجأة توقفت حين طرق سمعها صوت نبيل و كان من الواضح أنه يخاطب أحد أبنائه :
ـ أرجوك... انس الموضوع تماما... لا داعي لتعقيد الأمور أكثر من اللازم...
فراس... كن واقعيا... كل شيء انتهى منذ 3 سنوات... و الغرفة منذ تلك الآونة
شاغرة... فلماذا لا تسكنها ليلى؟

جاء صوت فراس حادا، رغم محاولة صاحبه الجاهدة لتهذيبه :
ـ لكنك تعلم أنني لا أريد ذلك... لا أريد ذلك! و مع هذا سمحت به!!

ـ لقد أنهينا الموضوع سابقا... أليست 3 سنوات بكافية لتنسى تلك الحادثة؟

بدا أن فراس يكاد ينفجر غاضبا... أو باكيا... أو كليهما معا :
ـ أنسى؟؟!! و كيف يمكنني أن أنسى؟!! هل ما حدث شيء ينسى؟؟!! أنت تطلب المستحيل...

تنهد نبيل في ضيق و هو يقول :
ـ فلتعلم إذن بأنني تعمدت أن أفتح الغرفة من جديد لتقيم بها ليلى... لأجبرك على النسيان! آن الأوان لتعود إلى حياتك الطبيعية...

ران صمت ثقيل لبعض لحظات قبل أن يقول فراس :
ـ و لكنها ليست أي شخص... إنها أختها التوأم...

قاطعه نبيل بصوت هادئ حمله شحنة من الحنان الأبوي :
ـ من الأفضل أن تهدأ الآن... قد تصل ليلى في أية لحظة...

أحست ليلى بالحرج حين سمعت اسمها و أدركت أن عليها الظهور فورا، لتضع حدا
لهذا الحوار المتشنج... أخذت نفسا عميقا ثم واصلت طريقها محاولة التصرف
بصفة طبيعية... و دلفت إلى غرفة الطعام المحاذية للبهو...

توجهت إليها الأنظار حال وصولها. رمقها ياسين بنظرة جانبية، في حين أطلق
أمين صفيرا طويلا معلنا عن إعجابه... أما فراس فقد رفع إليها عينيه في بطء،
و ما أن توقف بصره على وجهها حتى تراجع في حدة... كأن شحنة كهربائية
أصابته... ربت نبيل الذي كان يجلس قريبا منه على كتفه مشجعا، فوقف و توجه
نحوها. وقف قبالتها و مد كفا مختلجة لمصافحتها... لكنه تراجع في اللحظة
الأخيرة و خبأ كفيه و راء ظهره و هو يهمس بصوت مبحوح جاد به حلقه في عناء
شديد : مرحبا!

و بسرعة عاد إلى مجلسه و لبث مطرقا و قد ازداد وجهه شحوبا.
وقف نبيل و دعا ليلى إلى الجلوس قربه... قبالة فراس...

بدت نظرات ياسين إليها بلهاء... أو أن ليلى وجدتها كذلك... فقد ظل يحدق
فيها طوال فترة العشاء بصورة فظيعة! فتحاشت قدر الإمكان النظر إليه، و كان
من حسن حظها أنه يجلس في طرف المائدة، إلى جانب فراس... في حين لم يتوقف
أمين الذي كان يجلس إلى جانبها، قبالة ياسين، عن الثرثرة... فملأ الفراغ
بصوته الجهوري :

ـ أوه... ليلى! إنها مناسبة تستحق الاحتفال بالفعل، أليس كذلك؟ لكن ماذا...
صحنك لم يلمس بعد! يبدو أن طعام العم هاشم لا يعجبك... كلي أرجوك... فقد
لا تتمتعين معنا كثيرا بعشاء هادئ، قبل أن يقرر أخي العزيز ياسين إقامة
زوبعة بمشاكله التافهة التي لا تنتهي... تناولي قطعة السجق هذه... تبدو
محمرة بصفة جيدة... بالمناسبة، تبدين أنيقة دائمة دون ماكياج... و من ذا
الذي يفضل لوحة زيتية تحتوي على كل الألوان و الأصباغ! الطبيعة دائما أفضل
من الأقنعة المزيفة، و أنا شخصيا أفضل الفتيات الفخورات بجمالهن الطبيعي
دون غش... ألست محقا؟... فراس... فيم كنا نتحدث قبل قدوم ليلى؟ آه...
نعم... أبي يعتزم أخذنا في عطلة نهاية الأسبوع لقضاء اليوم بأكمله في
المزرعة... المكان رائع هناك و شديد الرومانسية... أراهن على أنك من محبي
الطبيعة!

كانت ليلى تحس بالغيظ الشديد من ملاحظاته الوقحة. ابتلعت قطعة أخرى من
اللحم في صعوبة، و هي تلحظ الوجوم المخيم على الوجوه، عدا وجه أمين طبعا...
الذي واصل قائلا :
ـ ستستمتعين كثيرا... العم صابر أيضا يحب المزرعة... فقد غرس في المرة
الماضية حوضا من الورود البرية الحمراء... حنان أيضا كانت تحب الورود
الحمراء...

أحست بأن الزمن توقف في تلك اللحظة، فقد توجهت الأنظار كلها إلى أمين الذي
بدا عليه الارتباك، بما فيها عيني ليلى... توقفت حركة الأكل و لم يعد صوت
الملاعق و الأشواك التي ترتطم بالصحون يسمع لمدة بضع ثوان... و أخيرا نطق
أمين :
ـ ألم يحدثك أحد عن حنان؟

كان فراس إلى تلك اللحظة يحاول الحفاظ على هدوئه و نظراته المهذبة، مسيطرا
قدر الإمكان على انفعالاته... و لكن ما إن نطق أمين بتلك الجملة حتى سقطت
الشوكة من يده محدثة رنينا على الأرضية المجلزة... ثم انتصب واقفا و هو
يمسح يديه في عصبية و غادر القاعة بخطى متوترة... نظر أمين حوله كالمتهم
الذي يحاول دفع الشكوك عنه، ثم التفت إلى ليلى و استطرد مغيرا الموضوع :

ـ هل تريدين شيئا من البيض؟ سيستاء العم هاشم إن لم تنهي طبقك... لم توقفت عن الأكل؟ خذي كأس العصير هذا... سينعشك...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://habibhiati.co.cc.org
امير البصري
مؤسس المنتدى
مؤسس المنتدى
امير البصري


الدولة : غير معروف
العذراء عدد المشـاركات : 1765
التـقيم : 107

الـقوة : 4
رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) Left_bar_bleue30 / 10030 / 100رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) Right_bar_bleue

تاريخ التسجيل : 15/02/2012
العمر : 35
الموقع : حبيب حياتي
۩ خدمة mms ۩ : رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) 128879
الاوسمة : لا يوجد
المزاج المزاج : دموع الحب أجمل إذا هي وجدت من يمسحها

رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية يا قاتلي، أين المفر...؟)   رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) Emptyالخميس 15 مارس 2012 - 1:00

الجــــــــــزء الثاني



إنها
ليلتها الأولى في القصر الكبير... مقر إقامة آل القاسمي... هكذا كانت تفكر
بينها و بين نفسها و هي تقف في الشرفة المظلمة المطلة على الحديقة
المترامية الأطراف... ترى هل ستمر على خير؟

كانت قد أوصدت باب الغرفة و أطفأت الأنوار حتى لا يزعجها أحد... و خاصة
أمين الفضولي! أوهمت الجميع بأنها نامت... و ظلت في الشرفة مستندة إلى
الحائط في ركن حالك الظلمة... كان الهواء عليلا يلفح وجهها بنسماته الصيفية
المنعشة...

عادت بأفكارها إلى الأيام القليلة الماضية، حين فاتحها والدها في موضوع
سفره العاجل من أجل مشروعه الجديد و إقامته التي قد تطول في أمريكا...
عارضت و تمسكت و أصرت... لكن إصرارها لم يمنع والدها من تنفيذ الخطة التي
قد قررها... و أعلن أنها ستسافر للإقامة عند خالها في الفترة المقبلة...

حينها تساءلت في حيرة... خالها؟ أي خال هذا؟ كانت قد نشأت و شبت في هذه
الدنيا و هي لا تعرف من أقاربها غير والدها و جدتها التي فارقت الحياة منذ
بضع سنوات... و منذ ذاك الوقت و حياتها مرتبطة بوالدها ارتباطا وثيقا، فهو
كل عائلتها... و مجرد التفكير في إمكانية العيش بعيدا عنه كانت تشعرها
بالألم و الصداع!

أما و هو يقول بأن لها خالا في مكان ما من هذا العالم، فهو ما لم تكن
تتوقعه في يوم من الأيام... و كان لا بد حينها أن يحدثها عن والدتها و
عائلة والدتها...

لم تستطع النوم في تلك الليلة... تماما كما لم تستطع أن تستسلم للنعاس في
هاته الليلة... كانت تعلم أن والدتها توفيت منذ سنين... و اختفت من حياتها و
سنها لم يتجاوز السنوات الخمس... و هاهي تكتشف حقيقة ستغير تاريخ حياتها
إلى الأبد... حقيقة أن والدتها لم تفترق عنها بسبب الموت، بل بسبب انفصالها
عن والدها! ثم توفيت بعيدا عنها بعد سنوات من الانفصال، دون أن يسمح لهما
القدر بالالتقاء ثانية، و دون أن تستشعر بقربها حنان الأمومة... و دون
تفاصيل أكثر عن ظروف حياتها و أسباب اختفائها ثم وفاتها...

و كانت المفاجأة الأكبر هي شقيقتها... لم تكن تعلم أو تتصور أن تكون لها
شقيقة... فضلا على أن يكون لها توأم!! نعم... حنان... أختها التوأم التي
افترقت عنها في سن الخامسة... فبعد انفصال الوالدين، اتفقا على أن يحتفظ كل
منهما بإحدى البنتين! صفقة عادلة... أن لا يطالب أحد منهما الآخر بالحضانة
و لا يطول الخلاف بينهما في المحاكم... فتتشوه سمعة سعادة السفير، و سليلة
العائلة العريقة...

عاشت ليلى مع والدها... و حنان مع والدتها... و لم تعلم إحداهما عن الأخرى شيئا...
أقامت والدتها مع أخيها الأكبر، السيد نبيل... و نشأت حنان بين أبناء
خالها... ياسين و فراس و أمين... و بعد وفاة والدتها بفترة وجيزة، تزوجت
حنان من فراس في سن لم تتجاوز الثامنة عشرة... لكن الموت كان ينتظرها هي
الأخرى بعد أقل من سنة من الزواج... حيث توفيت في حادثة، لم يخبرها والدها
عن تفاصيلها الشيء الكثير...

و هكذا رحل أفراد عائلتها الصغيرة عن الحياة الواحد تلو الآخر قبل أن
تعرفهم، قبل أن تستمتع بكلمة أمي أو كلمة أختي... و جثم على صدرها كابوس
الموت... فسألت الله في حرقة أن يعيد إليها والدها من سفره سالما، فهو كان
ولا يزال كل عائلتها...

كانت قد سافرت كثيرا في حياتها مع والدها و زارت العديد من البلدان
الأوروبية و العربية، فوالدها كان كثير الترحال بحكم عمله كسفير... لكنه
استقر مؤخرا في فرنسا، حيث تخلى عن مهامه الدبلوماسية و دخل عالم الأعمال
من بابه الواسع فأقام شركة خدمات تدر عليه أرباحا هائلة، حيث استفاد من
علاقاته و معارفه السابقة، و بدأت ليلى دراستها الجامعية هناك... أتمت
السنوات الأربع في كلية الحقوق... و بينما هي تستعد للتسجيل في الدراسات
المعمقة، فاجأها والدها بقرار السفر! و هاهي دون تأخير، تجد نفسها مع عائلة
خالها التي كانت تجهل عنها كل شيء تقريبا...

كانت تعلم أن توأمها، حنان، كانت زوجة فراس منذ سنوات ثلاث... و هاهي تكتشف
أنها كانت تقيم في هاته الغرفة نفسها قبل زواجها، و التي ظلت مقفلة طوال
السنين الماضية استجابة لرغبة فراس، فقد كان يجد صعوبة في نسيان ذكرياته مع
زوجته الراحلة التي تركته سريعا...

راودها إحساس بالعطف تجاه فراس، و تساءلت في نفس الوقت... كيف كانت حنان يا
ترى؟ يبدو أنها تشبهها في شكلها، فذلك واضح من الصورة المعلقة في الممر، و
من ردة فعل فراس العصبية حين وقعت عيناه على وجهها ساعة العشاء... لكن كيف
كانت طباعها؟ كيف هي شخصيتها؟ كانت في حاجة إلى معرفة المزيد عن ذاك الشخص
القريب البعيد... توأمها التي لم تلتق بها أبدا مذ رحلت مع والدتها... و
تأسفت لأنها لم تحمل عنها أية ذكريات... لا تذكر أنها شاركتها اللعب، أو
أنها كانت معها في أي مكان من هذا العالم... و ربما كان سفرها المتواصل
سببا في عدم وضوح ذكرياتها... إذ أنها لم ترتبط معنويا بأي مكان، عدا منزل
جدتها الصغير...

تنهدت في أسى و هي تصل إلى هاته النقطة من التفكير و سرحت في الحديقة شبه
المظلمة و خيالات الأشجار المتمايلة... فجأة لفت انتباهها شيء يتحرك في طرف
الحديقة. كانت ممرات الحديقة مضاءة، لكن الجوانب المعشوشبة كانت تفتقر إلى
الإنارة في تلك الآونة من الليل، حيث من غير المتوقع أن يخرج أحد ما
للنزهة... دققت النظر و بدا لها أن شبحا ما يتقدم في خفة و سرعة... شبح
إنسان... محدثا حفيفا مكتوما أثناء مشيه على العشب الندي. تابعته في تحفز و
قلق... و في لمح البصر كان قد وصل إلى أسفل البناية!

لم يكن بإمكان ليلى أن تتابع حركاته من زاويتها تلك، لكنها كانت واثقة من أنه أخذ يتسلق الجدار!

تسارعت دقات قلبها و تملكها الهلع... تسمرت في مكانها و قطعت أنفاسها
محاذرة الإتيان بأية حركة تنبئ عن وجودها هناك في تلك اللحظة... مرت لحظات
عصيبة على ليلى، قبل أن تسمع حركة آتية من الشرفة المحاذية... كان من
الواضح أن الشبح نجح في القفز داخل الشرفة، و تمكن من فتح الباب المؤدي
إليها، و غاب في الداخل في هدوء تام، بعد أن أعاد غلق الباب!!!

لبثت ليلى في موقعها مدة ليست بالقصيرة، و هي لا تعي ما الذي يجب عليها
فعله، كأنها جزء من الجدار... لم تكن قادرة على الحركة، فقد تجمدت أوصالها
من الرعب... و تجمعت الدموع في مقلتيها... و لكن... أين المفر؟

استولى عليها القلق حين مرت فترة من الزمن دون أن يعاود الشبح الظهور، مع
غياب أي مظهر من مظاهر الحياة... كاد الدم أن يتجمد في عروقها من الهلع.
إنها ليلتها الأولى هنا... فهل ستمر على خير؟

فجأة دوت صرخة اخترقت سكون الليل و اقتلعتها من مكانها اقتلاعا... هرولت
إلى الداخل و ارتدت سترتها على عجل... لم تكن قد نزعت حجابها... ترددت
للحظات، و لكنها سمعت حركة في الرواق فهبت لتفتح باب غرفتها، و في ثوان
معدودة كانت تقف في الممر... كان باب الغرفة المجاورة مفتوحا و الأنوار
مضاءة... لمحت ظلا طويلا في الداخل، أطلت في حذر... إنه أمين! و على الفراش
كان فراس ممددا بلا حراك... نائم، أو فاقد للوعي... نظرت ليلى في ذهول و
ظلت فاغرة فاها لوهلة... بادرها أمين مهدئا :
ـ لا تقلقي... كان مجرد كابوس...

همست ليلى في غير تصديق :
ـ كابوس؟!

تمتم أمين و قد ظهر على ملامحه التفكير :
ـ ظننت أنه تخلص من تلك الكوابيس التي لازمته بعد وفاة حنان...

همست ليلى من جديد :
ـ هل هو بخير؟

هز أمين رأسه و هو يتبعها إلى خارج الغرفة :
ـ لا داعي للقلق، قلت لك، هو مجرد كابوس... لكنه كان يصرخ فاضطررت إلى
إيقاظه... باستعمال بعض العنف... إنه هادئ الآن... سيكون أفضل في الصباح...

في تلك اللحظة تذكرت ليلى الشبح! التفتت إلى أمين الذي أغلق الباب خلفه :
ـ لكنني رأيت شبحا يتسلل إلى الشرفة... و يدخل هاته الغرفة!

نظر إليها أمين و الشك يملأ نظراته :
ـ شبح؟! لا شك أنك كنت تحلمين!

هتفت ليلى في إصرار :
ـ لم أنم بعد حتى أحلم! كنت واقفة في الشرفة و رأيت شبحا يعبر الحديقة و يتسلق الجدار و...

قاطعها أمين و هو يقول مبتسما :
ـ مجرد تهيؤات يا عزيزتي... أنت متعبة... و يلزمك قسط من الراحة بعد سفرك الطويل إلى هنا... هيا عودي إلى غرفتك... لقد تأخر الوقت...

قاومت في البداية... لكنها انقادت أخيرا و عادت إلى غرفتها و قد سيطر عليها الذهول...

ما الذي يحصل هنا؟
أي كابوس هذا الذي جعل فراس يصرخ مثل تلك الصرخة؟
و الشبح الذي رأته يتسلل إلى الشرفة... هل يكون مجرد أوهام؟
تملكها الفضول و الحيرة في آن... لم تستطع الخلود إلى النوم... النوم؟! من ذا الذي يستطيع النوم في ظروف كهذه؟

عادت إلى الشرفة و قد قررت أن لا تبرحها... إنها متأكدة من رؤيتها للمتسلل منذ أقل من ساعة...
حين ظهرت خيوط الفجر الأولى، انسحبت إلى الداخل و استلقت على فراشها في
إرهاق... لكنها ما لبثت أن قامت في تكاسل لتأدية الصلاة... ثم ارتمت من
جديد على الفراش، و نامت حتى الصباح...


حين استيقظت، كانت الساعة قد تجاوزت العاشرة... كانت لا تزال تحس بالتعب و
بحاجة ملحة إلى النوم. تقلبت في مكانها و لفت الملاءة على جسمها من جديد...
تذكرت أحداث الليلة الماضية ففر النوم من عينيها مباشرة... قفزت من مكانها
و سارعت بتغيير ملابسها... كان يجب أن تتحدث إلى فراس!

وقفت أمام الباب مترددة... هل تراه استيقظ؟ تشجعت أخيرا و رفعت يدها لتطرق
الباب في لطف... جاءها الإذن بالدخول... لكنها أدارت المقبض و دفعت دفة
الباب دون أن تخطو إلى الداخل... أطلت من الفتحة في حياء... كان فراس يجلس
على طرف الفراش و هو لا يزال في ملابس النوم... نظر إليها في دهشة...
فمجيئها إلى غرفته لم يكن متوقعا بالمرة! لكنه رسم على شفتيه ابتسامة
مغتصبة، بدا فيها التعب و الضيق و وقف لاستقبالها. لم يكونا قد تبادلا غير
كلمة واحدة مذ جاءت إلى هنا، و بدا على وجهه الإعياء و هو ينظر إلى
وجهها... ذاك الوجه الذي يثير لديه ذكريات بعيدة...

تعثرت كلماتها و هي تتمتم في خفوت :
ـ كنت أود... الاطمئنان على حالتك... الصحية... بعد... حادثة البارحة...

رفع حاجبيه في دهشة :
ـ حالتي الصحية؟ حادثة البارحة؟

لبث متفكرا للحظة ثم هتف و هو يبتسم :
ـ آه... شكرا لمجيئك... و آسف على الازعاج... يبدو أنني تسببت في إيقاظك...

كان يبتسم، ابتسامة هادئة، مختلفة عن ابتسامته الأولى المتكلفة، و إن لم
تخل من مرارة... يحاول أن ينسى أو يتناسى أنها شقيقتها... توأمها. ابتسمت
بدورها، و همت بأن تسأله عن الشبح... لكن تناهى إلى مسامعهما لغط و وقع
أقدام قادمين من طرف الممر... و ما لبث أمين أن ظهر رفقة فتاة شابة، في مثل
عمر ليلى تقريبا أو تكبرها ببضع سنوات... ذات جمال و أناقة ملحوظين إضافة
إلى زينة متبرجة و شعر طويل مصبوغ منسدل على كتفيها...

فجأة توقفت الفتاة عن السير و تسمرت مكانها و هي تطالع ليلى في ذهول. سحبها أمين من ذراعها على الفور و هو يقول متضاحكا :
ـ إنها ليلى التي كنت أحدثك عنها منذ لحظات... شقيقة حنان...

لكن الفتاة همست في صوت غير مسموع :
ـ لكنك لم تقل أنها نسخة منها!

ضحك أمين من جديد و هو يضيف :
ـ نعم... شقيقتها التوأم...

ثم التفت إلى ليلى و قال و هو يقدم الفتاة التي تصاحبه :
ـ ليلى... هذه رجاء... ابنة خالتي...

مدت ليلى كفها لتصافح رجاء التي تلقت كفها في برود ظاهر ثم تجاوزتها مندفعة
نحو فراس الذي كان لا يزال واقفا عند الباب... سارعت إليه و أمسكت بكفه
بين يديها و هي تقول في نعومة :
ـ فراس... عزيزي... كيف حالك؟ هل أنت على ما يرام؟... أخبرني أمين أن الكابوس عاودك الليلة الماضية...

سحب فراس يده في هدوء و أخفاها خلف ظهره و هو يقول :
ـ أنا بخير... أنا بخير...

و استدار ليغيب داخل غرفته. لكن رجاء طاردته في إصرار، و همست و هي تقفز أمامه و تتحسس وجهه بأطراف أصابعها :
ـ فراس عزيزي... أعلم أنك متضايق... و كل هذا بسبب شبيهة حنان... أعلم أن وجودها يسبب لك المتاعب...

أبعد يديها عن وجهه في صرامة أكبر و هو يقول في حزم :
ـ رجاء قلت لك أنني بخير... لا داعي إلى مثل هاته التعليقات...

لم يكن الموقف يسمح بوقوف ليلى أكثر مما فعلت فاندفعت في اتجاه الدرج... لحقها أمين في سرعة و هي لا تزال في الممر.
ـ ليلى...

وقفت دون أن تلتفت و هي تقاوم العبرات التي تجمعت في مقلتيها دون سابق إنذار. واجهها أمين و هو يبتسم في ود و قال :
ـ اعذريها... إنها لا تعي ما تقول... فحنان كانت غالية علينا جميعا. و
فقدانها كان صدمة كبيرة، و خاصة بالنسبة لفراس... فليس من الهين على المرء
أن يفقد زوجته و هي في عمر الزهور...

ابتسمت ليلى في عناء ثم هزت رأسها في تفهم :
ـ نعم... أكيد...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://habibhiati.co.cc.org
امير البصري
مؤسس المنتدى
مؤسس المنتدى
امير البصري


الدولة : غير معروف
العذراء عدد المشـاركات : 1765
التـقيم : 107

الـقوة : 4
رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) Left_bar_bleue30 / 10030 / 100رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) Right_bar_bleue

تاريخ التسجيل : 15/02/2012
العمر : 35
الموقع : حبيب حياتي
۩ خدمة mms ۩ : رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) 128879
الاوسمة : لا يوجد
المزاج المزاج : دموع الحب أجمل إذا هي وجدت من يمسحها

رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية يا قاتلي، أين المفر...؟)   رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) Emptyالخميس 15 مارس 2012 - 1:01

الجزء الثــــــــــــالث





أمضت بقية الفترة الصباحية في عملية التعرف على أرجاء القصر... فعرفت أن
غرفة فراس هي الغرفة الملاصقة لغرفتها في حين كانت قبالتها غرفة أمين. أما
ياسين و السيد نبيل فيقيمان في الطابق العلوي. في الأثناء كانت رجاء تلازم
فراس. و لم تجازف ليلى بالاقتراب منهما حين لمحتهما يجلسان في الصالة
العلوية. أمضت الكثير من الوقت في الحديقة، خاصة بعد أن انصرف كل من ياسين و
خالها إلى أعمالهما... و بعد الغداء، جاء سائق رجاء لأخذها، فتنفست ليلى
الصعداء!

لكنها في نفس الوقت كانت تشعر بالملل... فليس هنالك فتاة أو امرأة
تحادثها... ليس هنالك غير أمين، الذي لم يتوقف عن عرض خدماته! أما فراس،
فما إن تخلص من صحبة رجاء حتى عاد إلى غرفته و لم يظهر طيلة فترة ما بعد
الظهر. ياسين و السيد نبيل يغيبان طوال اليوم في الشركة... و فراس الذي
يستعد للانتقال إلى عيادته الخاصة لم يذهب اليوم إلى المستشفى لإحساسه
بالتعب بعد ليلة البارحة المضطربة...

صعدت أخيرا إلى غرفتها و إحساسها بالملل يقتلها... تناولت مصحفها و جلست
تقرأ بصوت خافت... شعرت براحة كبيرة... دعت بخشوع من أجل سرعة عودة والدها و
نجاحه في صفقته. لم يتصل بها اليوم... كان قلقها يتزايد لأنه ليس من عادته
أن يغيب عن ناظريها كل هذه المدة...

أزاحت الستار و هي تتنهد في قوة. فتحت باب الشرفة و استقبلت النسيم و هي
تغمض عينيها في انشراح. تقدم بضع خطوات و استندت بمرفقيها على جدار الشرفة و
سرحت بعيدا... كم تحتاج إلى الاتصال بالعالم الخارجي. لا أحد يفهمها مثل
صديقتها المقربة سحر التي تركتها في فرنسا. لم تحصل على اشتراك هاتفي بعد،
كما أنها تفتقد كثيرا الشبكة العنكبوتية منذ وصولها... يجب أن تطلب من
خالها إمدادها بكل هاته الاشتراكات... خاصة إن كانت فترة إقامتها ستطول!

كان فراس يجلس في شرفته ذاك العصر و قد احتضن مجلدا ضخما، من كتبه الطبية
بالتأكيد! كان يريد أن يتجاهل ذاك الكم الهائل من الذكريات التي هاجمت عقله
فجأة... حاول أن يشغل نفسه بالقراءة، لكنه كان يفقد تركيزه بسرعة و تأخذه
أفكاره بعيدا... إلى حنان! اجتاحه إحساس بالضيق و الألم... ثلاث سنوات مرت و
هو غير قادر على تجاوز الذكرى، غير قادر على استعادة التوازن في حياته...
تلك الحادثة غيرت الكثير في نفسه، غيرته بلا رجعة... الكل لاحظ عصبيته
الزائدة، بروده و انطواءه...

فجأة، انتبه حين طرق مسامعه تنهيدة عميقة، و ما لبث أن رأى خيالها يظهر في
الشرفة المجاورة... تقدمت أمام عينيه و هي تستقبل النسيم البارد دون أن
تنتبه إلى وجوده... تعلقت عيناه بجانب وجهها الذي يظهر من زاويته، و تداخلت
المشاعر في نفسه... حنان؟ لا... إنها ليلى! تمالك نفسه بصعوبة و سيطر على
دمعة أوشكت أن تتسلل إلى طرف عينه... لشد ما تعذبت روحه في كل مرة يقع نظره
على صورة لها، لكن أن يراها أمامه بهذا الشكل "الحقيقي" فهو ما لا يقدر
على تحمله... لماذا يا حنان؟ لماذا؟ أغمض عينيه في قوة ليطرد طيفها، وضع
رأسه بين يديه و تنهد في ألم...

في تلك اللحظة انتبهت ليلى إلى أنفاسه التي تتردد بقوة غير بعيد عنها،
التفتت في سرعة و لمحته على تلك الحالة، يضغط على رأسه بكلتا يديه في ألم
واضح و قد تغيرت ملامحه :
ـ فراس... هل أنت بخير؟

رفع رأسه في اضطراب... كان قد نسي وجودها للحظات... بدا عليه أنه لم يستوعب الموقف بعد... جاءه صوت ليلى ثانية :
ـ هل أنت بخير؟

إنه متأكد من أن الصوت لم يكن صوتها... النبرة مختلفة! ارتبك، وقف فجأة
فسقط الكتاب الذي كان في حضنه... نظر إليها نظرة أخيرة، و همس في ذهول :
ـ أنا آسف...

ثم سارع بالدخول إلى غرفته، تاركا ليلى في حيرة و قلق...



*******
انتبهت ليلى على نقر خفيف على باب غرفتها. كانت قد عادت إلى الداخل بعد
اختفاء فراس من الشرفة، و لبثت تقطع الغرفة جيئة و ذهابا في قلق واضح...
كان جليا بالنسبة إليها أنه لم يكن على ما يرام... لم يكن الطرق شبيها
بطرقات أمين الموقعة. عقدت حاجبيها في تساؤل : من يكون القادم في مثل هاته
الساعة؟

اقتربت في خفة من الباب و هتفت بصوت رقيق :
ـ من هناك؟

أجابها صوت أنثوي غريب.
ـ ليلى... هلا فتحت؟

تهللت ليلى فرحا طالما كان الصوت أنثويا و هرعت لتفتح الباب، و قد أدركت من
الطارق مسبقا. طالعتها امرأة شابة تقترب من الثلاثين، ترتدي ثوبا محتشما
أنيقا و قد ألقت على رأسها غطاء دون اهتمام، يكشف عن مقدمة شعرها.
استقبلتها بابتسامة واسعة و احتضنتها في حرارة و هي تقول :
ـ أهلا بك... كيف حالك؟ أنا منال... زوجة ياسين... و هذه رانيا ابنتي...

اتسعت ابتسامة ليلى حين انتبهت إلى الكائن الصغير الذي يمسك بطرف ثوب منال و
يتطلع إليها بعينين بريئتين و ابتسامة مترددة. انحنت بسرعة لتقبل الفتاة
الصغيرة التي يبلغ عمرها 4 سنوات و حسب و ربتت على رأسها في حنان.

تخلصت رانيا من حضن ليلى في سرعة و اختفت خلف والدتها في خجل... لكنها ما
لبثت أن أطلت في فضول، فلم تتمالك ليلى نفسها أن أطلقت ضحكة صغيرة على شكل
الفتاة المضحك.
ـ سلمي على الخالة ليلى... هيا رانيا...

عادت الفتاة لتختفي من جديد في ارتباك و غمغمت و هي تدفن وجهها في ثوب والدتها :
ـ مرحبا خالة ليلى...

ضحكت ليلى و منال من جديد ثم قالت منال :
ـ كنت في زيارة لمنزل والدي و لم أعلم بوصولك إلا الآن، من العم صابر...
أرجو أن لا يكون الملل قد أصابك في هذا القصر الكبير، حيث الكل منشغل عن
غيره!

ابتسمت ليلى و قد وجدت من يشاركها همومها!
ـ نعم، فأنا لم أسجل في الجامعة بعد لإتمام المرحلة الثالثة من دراستي... و حين ينشغل كل بأعماله أجد نفسي وحيدة بلا عمل!

ـ لا تقلقي... فأنا متفرغة لك كليا... انقطعت عن العمل منذ أنجبت رانيا...

سألتها ليلى و هما تتوجهان نحو الصالة العلوية في نفس الطابق :
ـ و ماذا كنت تعملين قبل ذلك؟

ـ كنت موظفة في شركة عمي نبيل... في قسم العلاقات العامة...

ضحكت و هي تواصل قائلة :
ـ ثم التقيت بياسين... و حصل ما حصل!

شاركتها ليلى الضحك و قد أحست بالراحة إلى هاته المرأة التي تبدو عليها
الطيبة و التلقائية، و فوق كل هذا فهي أنثى مثلها و تفهمها أكثر من أي شخص
آخر في هذا المكان!

استمرت الأحاديث بينهما ساعة من الزمن حول مواضيع شتى، و رغم الفارق العمري
فقد وجدتا الكثير من النقاط المشتركة بينهما، و أهمها شغفهما بالمطالعة و
حب الطبيعة و المناطق المفتوحة... فقد كانت ليلى قد تعودت على الوحدة، فلم
يكن يخفف عنها إلا قراءة الكتب و الجلوس في المناطق الخضراء و التأمل إضافة
إلى الإبحار على الإنترنت بطبيعة الحال. أما منال، فإن أصلها الريفي و
طموحها إلى تغيير وضعها اشتركا في تشكيل محاور اهتمامها... و لم تنس ليلى
أن تصارح منال بحاجتها إلى وسائل الاتصال بالعالم الخارجي فوعدتها منال بأن
تفاتح السيد نبيل في أقرب فرصة...

نظرت منال في ساعتها و قالت :
ـ حان وقت العشاء... أراهن على أني عمي ينتظرنا على المائدة!

وقفتا و توجهتا إلى الدرج... و في تلك اللحظة فتح باب غرفة فراس... ظهر
فراس و قد بدا أكثر هدوء و تماسكا... ركضت نحوه رانيا في حماس و هي تهتف
بصوت مرح :
ـ عمي فرااااس...

استقبلها فراس بذراعيه و رفعها عاليا و هي تطلق ضحكاتها الرنانة في سعادة حقيقية... اقتربت منهما منال مبتسمة :
ـ كيف حالك فراس؟

كان لا يزال يحتضن الصغيرة في حب و قال متظاهرا بالغضب :
ـ لا تسأليني عن حالي و قد حرمتني من حلوتي ثلاثة أيام كاملة!

ضحكت منال، و اكتفت ليلى التي وقفت على بعد أمتار منهم بابتسامة. انتبه
فراس إلى وجودها حين تقدم بضع خطوات لينزل إلى قاعة الطعام... ابتسم و هو
يمر قريبا منها و قال محدثا رانيا :
ـ حبيبتي... كيف كانت رحلتك؟ ألم تشتاقي إلي؟

عانقته الفتاة بذراعيها الصغيرتين و طبعت قبلة على خده و هي تهتف :
ـ اشتقت إليك كثيرا جدا جدا...

ثم همست في أذنه :
ـ أين الحلوى التي وعدتني بها؟

ضحك فراس على دهاء الفتاة الصغيرة و قال و هو ينزل الدرجات في هدوء واحدة واحدة :
ـ الآن وقت العشاء... الحلوى نتناولها فيما بعد... اتفقنا؟

هزت الفتاة رأسها موافقة...
كانت ليلى و منال تمشيان خلفهما. و كانت المرة الأولى التي ترى فيها ليلى
فراس يضحك... كان يبدو مختلفا حين يضحك. تلين ملامحه التي تصلبت من شدة
التجهم و تلتمع عيناه ببريق الحياة، البريق الذي تحل مكانه ظلال قاتمة حين
يتملكه الغضب و العصبية... و هو الطبع الذي سيطر عليه في السنوات القليلة
الماضية. و لم يعد هنالك أحد قادر على إضحاكه إلا رانيا الصغيرة، التي ينسى
العالم بأسره حين يدخل دنيا براءتها...
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://habibhiati.co.cc.org
امير البصري
مؤسس المنتدى
مؤسس المنتدى
امير البصري


الدولة : غير معروف
العذراء عدد المشـاركات : 1765
التـقيم : 107

الـقوة : 4
رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) Left_bar_bleue30 / 10030 / 100رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) Right_bar_bleue

تاريخ التسجيل : 15/02/2012
العمر : 35
الموقع : حبيب حياتي
۩ خدمة mms ۩ : رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) 128879
الاوسمة : لا يوجد
المزاج المزاج : دموع الحب أجمل إذا هي وجدت من يمسحها

رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية يا قاتلي، أين المفر...؟)   رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) Emptyالخميس 15 مارس 2012 - 1:02

الجــــــــــــزء الرابع


ارتفعت
دقات عميقة تضرب دماغها في وقع رتيب، لم تستطع مقاومة إحساس بالخدر يلف
جميع أوصالها و يشدها إلى عالم الأحلام في إصرار... فتحت ليلى عينيها
بصعوبة و هي تقاوم الطنين الذي لف عقلها بغلاف ضبابي... حط نظرها على سقف
الغرفة السماوي المزركش... عقدت حاجبيها في انزعاج و هي تحاول تذكر
المكان... ارتفعت الدقات من جديد على نفس الوتيرة، لكن بوضوح أكبر هذه
المرة، على باب غرفتها... نعم، إنها في قصر خالها... نبيل القاسمي...

عادت إليها ذكريات مساء البارحة. كانت قد أمضت سهرة ممتعة رفقة منال في
الحديقة الخلفية، أما الجو العام في العشاء فقد كان أكثر هدوء... لكن لم
يخف عنها انزواء فراس المستمر و صمته الطويل على المائدة. يشغل نفسه بإطعام
رانيا وملاعبتها، كأنه لا يرى في الدنيا أحدا سواها...

انتزعتها نفس الدقات التي أخذت تعلو في إصرار، من أفكارها، فقامت على الفور و هي تهتف :
ـ لحظة واحدة... أنا قادمة...

ارتفع صوت أمين خارج الغرفة و هو ينقر بتوقيع خاص على الباب :
ـ ليلى... ألم تستيقظي بعد؟ سنتأخر...

نظرت إلى ساعتها في ارتباك، إنها الساعة التاسعة و النصف... أوه، نعم...
لقد اقترح خالها أن يذهبوا في رحلة عائلية إلى مزرعة العائلة اليوم. لا
يمكن أن تكون قد نسيت ذلك، لكن يبدو أن هواء الليل البارد قد أصابها بصداع
فثقلت رأسها...

غيرت ملابسها بسرعة، لملمت شعرها بصفة عشوائية و عدلت وشاح رأسها قبل أن
تفتح لأمين الذي كان لا يزال مرابطا أمام الباب... كان يقف أمامها في سروال
جينز و قميص، مع حذاء رياضي. كان يبدو في غاية الأناقة و قد فاحت منه
رائحة عطر رجالي جذاب. ابتسم و هو يبادرها :
ـ صباح الخير... ألم تستكملي استعداداتك بعد؟

تمتمت ليلى في خجل :
ـ الحقيقة أنني اسيقظت للتو...

نظر إلى ساعته كالمتذمر :
ـ هيا أرجوك... سنتأخر... أنت تعلمين أن جمال الطبيعة لا يضاهى في الصباح... سيفوتنا المشهد... هيا، أرجوك أسرعي...

ابتسمت في شبه اعتذار و همست :
ـ سأكون جاهزة خلال خمس دقائق... إن شاء الله

عادت إلى الداخل، فتحت صوان الملابس و انتقت فستانا صيفيا مناسبا ذي لون
زهري باهت. نزلت مسرعة فلاقت أمين عند أسفل الدرج. رمقها بإعجاب لم يحاول
إخفاءه و همس حين مرت بقربه :
ـ اختيار موفق...

تجاهلته و هي تتأفف في سرها من أسلوبه المتمادي في الوقاحة و انضمت إلى
منال و رانيا في قاعة الاستقبال. سأجد الوقت لأعيد تربيتك من جديد يا أمين.
انتظر فقط أن أعتاد على أجواء القصر و طباع أهله، ثم سأريك من تكون ليلى.
قبلت رانيا على وجنتيها ثم أجلستها على ركبتيها و هي تلهو بخصلات شعرها
الكستنائية. لم تنتبه إلى فراس الذي كان يقف في الطرف الآخر من البهو و في
عينيه نظرة متجهمة.

اقترب منها نبيل القاسمي، فوضعت رانيا على الأريكة القريبة و وقفت لاستقبال خالها. ربت على كتفيها في ود و قال مبتسما :
ـ هل حظيت ابنة أختي العزيزة بليلة هانئة و نوم مريح؟

ردت الابتسامة في امتنان و هي تقول :
ـ شكرا لك يا خالي...

سبقها بخطوات قبل أن يلتفت إليها ثانية كأنه تذكر شيئا هاما :
ـ اشتراك الهاتف الجوال سيكون عندك هذا المساء، و سيتم توصيل خط شبكة
الانترنت إلى غرفتك أيضا... كل شيء سيكون جاهزا حين نعود من المزرعة...

ثم واصل سيره نحو الباب المؤدي إلى الحديقة. همهمت ليلى بكلمات شكر، ثم التفتت إلى منال في امتنان.
بينما كانت في طريقها إلى المدخل، اقترب منها أمين من جديد و هو يقول :
ـ هل تسمحين لي بمرافقتك إلى السيارة؟

نظرت إلى منال كأنها تستنجد بها فتدخلت منال بسرعة :
ـ ليلى ستكون معي و رانيا...

فأردف أمين على الفور :
ـ إذن اسمحا لي بأن أكون السائق...

هزت منال كتفيها في تسليم و هي تبتسم إلى ليلى التي تبعتهما في إذعان.
سبقهما أمين إلى سيارته الرياضية الزرقاء و فتح الباب لاستقبال الفتيات،
لكنه فوجئ بياسين يحشر نفسه في المقعد الخلفي و ابتسامة عريضة تملأ وجهه،
فصرخ فيه أمين في احتجاج :
ـ ما الذي تفعله هنا؟ أليست لديك سيارة؟

اتسعت ابتسامة ياسين و هو يقول في استعطاف :
ـ سيارتي تعطلت البارحة في طريق العودة من الشركة فتركتها عند الميكانيكي...

ـ إذن سيارة زوجتك!

ـ أرجوك أمين، أنا متعب... لم أنم جيدا ليلة البارحة... ليس لدي التركيز
الكافي للقيادة، لذلك سأستلقي في الخلف و آخذ قسطا من النوم... أرجوك، كن
متفهما...

ضحكت منال التي حفظت حيل زوجها عن ظهر قلب و قالت لأمين :
ـ لا بأس، سآخذ سيارتي و ستذهب ليلى معي

بدت علامات الإحباط على أمين، في حين ابتعدت الفتيات في اتجاه المرآب حيث
تقف بقية السيارات. ما إن رأت رانيا فراس حتى ركضت إليه. أخذها بين ذراعيه
ثم أجلسها على مقدمة سيارته و أخرج من محفظته علبة الشكولاطة التي يحتفظ
بها من أجلها. وصلت منال فساعدت ابنتها على النزول :
ـ هيا يا رانيا... سنتأخر... قولي شكرا لعمو فراس و هيا لنركب سيارتنا...

أفلتت الفتاة من بين يديها و التصقت بساق فراس و هي تهتف بشفتين ملطختين بالشكولاطة التي لم تنته من التهامها بعد :
ـ سأركب مع عمي فراس...

عقدت منال ذراعيها أمام صدرها و هي تقول في صرامة :
ـ كفاك دلالا... عمك فراس لن يتحملك طوال الطريق...

ربت فراس على رأس الصغيرة و هو يقول مهدئا منال :
ـ بالعكس، يسعدني أن ترافقني حبيبتي رانيا... وما رأيك لو تنضمين إلينا أنت و... ليلى

قال ذلك و هو يلقي نظرة عابرة على ليلى التي شعرت بتوتر غريب حين نطق
باسمها. تطلعت منال بدورها إلى ليلى و قد راقت لها الفكرة. و ماهي إلا
لحظات حتى كانت سيارات ثلاث تغادر القصر في اتجاه الطريق الزراعية : السيد
نبيل مع خادمه العم صابر الذي يرافقه كظله في المرسيدس السوداء، أمين
المغتاظ مع ياسين الذي تمدد على المقاعد الخلفية و غط في نوم عميق في
الغولف 4 الزرقاء، و أخيرا فراس و رانيا في السيارة الباسات البيضاء
ترافقهما منال و ليلى في المقاعد الخلفية...

سرحت ليلى بنظراتها إلى شوارع المدينة عبر زجاج النافذة... هذه هي المدينة
التي ولدت فيها، ثم سافرت عنها لتجوب الدنيا... و هاهي تعود إليها بعد أن
فقدت كل رابط معنوي يربطها بها، أمها و أختها... شخصان لا تذكر عنهما
شيئا... حرمت من معنى العائلة بسبب خلاف بين والديها... هل تراه خلافا
يستحق كل هاته التضحيات؟ هل استحق إبعاد الأختين عن بعضهما البعض، و حرمان
واحدة من حنان الأم و الأخرى من عطف الأب؟

كان المشهد في الخارج قد تغير بعد أن غادرت السيارات شوارع المدينة المكتظة
و أخذت تطوي الطريق الزراعية طيا في اتجاه المزرعة التي تمتلكها عائلة
القاسمي في الضاحية الغربية للمدينة. انشغلت ليلى بالمشهد الطبيعي الذي كان
مختلفا عن الريف الأوروبي الذي عرفته معظم الوقت... و لم تستطع أن تتجاهل
الاصفرار الذي يصبغ الطبيعة من حولها! فمقارنة بالريف الفرنسي، الذي يتميز
بمقدار هام من التساقطات، كان اللون الأخضر هنا باهتا و خاليا من الروح
للجفاف الغالب على المناخ... أصابتها هاته الملاحظة باكتئاب مفاجئ، فقد
كانت تمني نفسها بنزهة مريحة بين أحضان الطبيعة، و لأنها تعشق الألوان
النقية فإن مشهدا طبيعيا بدونها لا يساوي شيئا في نظرها...

تناهى إلى مسامعها صوت رانيا الطفولي و هي تهتف في ملل :
ـ متى نصل؟

كان صوت فراس دافئا و حانيا و هو يجيبها :
ـ لم يعد هناك الكثير... أرأيت المنعطف هناك؟ إنه يؤدي إلى الوادي الذي يسبق المزرعة...

التفتت ليلى لتنظر إلى حيث يشير، و حين اعتدلت في جلستها من جديد، التقت
عيناها بعيني فراس في المرآة الأمامية العاكسة... أرخت بصرها بسرعة و قد
شعرت بالتوتر. كانت نفس النظرة القاسية في عينيه. تساءلت عما دعاه إلى
أخذها في سيارته... شحوب وجهه حين رأته في الشرفة تلك المرة يوحي بأن
رؤيتها تعيد إليه ذكريات أليمة عن حنان. بم تراه يشعر حين يذكرها؟ حنان
كانت شبه مراهقة حين تزوجا، لم يتجاوز عمرها الثامنة عشرة... فهل كان
بينهما حب ما، حب مراهقين؟ عشرات علامات الاستفهام كانت ترتسم في رأسها، عن
أختها، توأمها التي كانت نسخة منها في الشكل... فما هو مدى التقارب بينهما
في الجوهر؟ تريد أن تعرف عنها كل شيء... لكن لا يبدو أن فراس هو الشخص
المناسب لتطرح عليه أسئلتها...

وصلت السيارات الثلاث إلى المزرعة. توقفت المرسيدس و الغولف أمام المنزل
الريفي، في حين أوقف فراس سيارته الباسات بعيدا، تحت ظل شجرة صنوبر ضخمة.
نزلت رانيا و ركضت في حماس في اتجاه المنزل، أما منال و ليلى فقد ترجلتا
على مهل و هما تمتعان بصرهما بالمشهد الخلاب الذي فاق جميع توقعات ليلى...
فيبدو أن ممتلكات آل القاسمي لا تشبه في شيء ما يحيط بها من حقول و مزارع!
الأشجار و السهول كانت تكتسي خضرة مشرقة تسحر الألباب و تدخل على النفس
انشراحا عجيبا... ابتسمت في سرها و هي تتيقن أكثر و أكثر من الثراء الفاحش
الذي تنعم به عائلة خالها... فمع أنها ابنة سفير سابق و رجل أعمال متمرس و
قد عاشت حياة مرفهة، إلا أنها لم تعرف هذا النوع من الرفاهية، حياة القصور و
الممتلكات الشاسعة... فوالدها كان من محبي البساطة و شقتهما الفاخرة في
باريس لا تساوي جناحا واحدا من أجنحة قصر آل القاسمي!

انتزعها أمين من تخيلاتها حين اقترب منها قائلا، بصوته الجهوري :
ـ كيف كانت رحلتك إلى هنا؟ ... الكثير من الاهتزازات؟ لا أظنك تعودت على
الطريق الريفية غير الممهدة! تعالي، سأعرفك على الخالة مريم... مربيتنا.
إنها تقيم في الضيعة منذ زمن... مذ تخلى القصر عن خدماتها لتقدمها في
السن... لكننا لا ننكر فضلها علينا... و لذلك منحها والدي راتبا شهريا، مع
الإقامة في المزرعة... فهي امرأة وحيدة و ليس لها أبناء...

ثم أضاف مبتسما :
ـ عدانا نحن الثلاثة طبعا! فهي ربتنا جميعا... أنت تعلمين أنه ليس من السهل
أن تهتم عجوز بمفردها بمزرعة مترامية الأطراف كالتي يملكها والدي، لكن منذ
استقرارها هنا، تحسنت الأوضاع بشكل ملحوظ! فقد أبدت حنكة و مهارة تضاهي
تلك التي أبدتها من قبل في تدبير شؤون القصر و الاهتمام بالأطفال... فهي
هنا تقدم الكثير من المقترحات، لولعها بالزراعة و الطبيعة، و تنافس
المشرفين أحيانا! انظري... هذا حوض الورود البرية الذي حدثتك عنه...

سبقها بخطوات و توقف أمام حوض ورود حمراء، كتلك التي رأتها في الحديقة
الأمامية للقصر، و انحنى ليقطف وردة حمراء قانية ثم تقدم نحو ليلى بخطوات
هادئة. رمقته ليلى في شك، فأمين من النوع الذي لا يمكن توقع تصرفاته! لكنه
هذه المرة كان أقل شاعرية مما كان عليه إبان استقبالها، فمد إليها الوردة
دون رسميات، و على شفتيه ابتسامة حالمة... و لوهلة، بدا لليلى أنه شرد
بعيدا، إلى حيث لا تدري، ثم بهتت الابتسامة على شفتيه و بقيت يده ممدودة
بالوردة... ترددت ليلى، لكن حين لاحظت أن يده أخذت ترتخي و الوردة تكاد
تفلت من بين أصابعه، مدت يدها و تناولتها و هي تهتف :
ـ أمين... هل أنت بخير؟

بقيت عيناه مركزتين على الوردة بين أصابعها للحظات، كأنه يحدق في الفراغ،
ثم ما لبث أن انتبه إليها، فتراجع في ارتباك و نظر إلى الوردة التي كانت في
يدها الآن، ثم همس في هدوء :
ـ تقبلي مني هذه الوردة... عربون صداقة!

و بمرح غير متوقع هتف :
ـ تعالي... لقد سبقنا الآخرون!

ثم سبقها من جديد و أخذ يرتقي الدرجات المؤدية إلى المنزل الريفي و هو
يثرثر حول الطقس و طعام الغداء و عصافير الكناري التي تربيها الخالة
مريم...

ابتسمت ليلى في حيرة و هي تتبعه في صمت... لقد عاد أمين إلى طبيعته
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://habibhiati.co.cc.org
امير البصري
مؤسس المنتدى
مؤسس المنتدى
امير البصري


الدولة : غير معروف
العذراء عدد المشـاركات : 1765
التـقيم : 107

الـقوة : 4
رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) Left_bar_bleue30 / 10030 / 100رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) Right_bar_bleue

تاريخ التسجيل : 15/02/2012
العمر : 35
الموقع : حبيب حياتي
۩ خدمة mms ۩ : رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) 128879
الاوسمة : لا يوجد
المزاج المزاج : دموع الحب أجمل إذا هي وجدت من يمسحها

رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) Empty
مُساهمةموضوع: رد: رواية يا قاتلي، أين المفر...؟)   رواية  يا قاتلي، أين المفر...؟) Emptyالخميس 15 مارس 2012 - 1:03

جـــــــــزء الخامس


تناهى
إليهما صوت الخالة العجوز و هي تتبادل الأحاديث مع أفراد العائلة. كان
السيد نبيل و فراس و ياسين و منال قد دخلوا إلى الردهة منذ حين... و كان
ضحك الصغيرة رانيا يتعالى و هي تجلس بين أحضان الخالة مريم و تلهو بطرف
ثوبها المطرز.

دخل أمين فاتحا ذراعيه و هتف :
ـ مريومتي... كيف حالك أيتها العجوز الحبيبة؟

وقفت في تثاقل بعد أن أزاحت رانيا من حضنها و هي تتظاهر بالغضب :
ـ قلت لك لا تنادني بالعجوز مادامت في الصحة بقية!

ثم قالت في حنان :
ـ مضى وقت طويل يا صغيري... تبدو نحيلا! هل تناولت فطورك؟

ضحك الجميع على أمين الذي أخذ يستعرض عضلاته محتجا :
ـ تلك يسمونها رشاقة يا مريم العزيزة... رشـــــــاقة!

في تلك اللحظة تفطنت إلى وجود ليلى فتسمرت مكانها في دهشة و تراجعت خطوتين
لتبحث عن نظاراتها الطبية الموضوعة على المنضدة. وضعتها على عينيها بأصابع
مرتعشة ثم هتفت مصدومة :
ـ خبروني... هل ترون ما أرى... أما أنها تهيؤات و تخاريف عجائز؟

إذاك تقدم السيد نبيل و أمسكها من ذراعها و قد أخذت مفاصلها في الارتعاد من
الصدمة. أجلسها على الأريكة و ساقاها لا تكادان تحملانها. قال مهدئا :
ـ استريحي و تنفسي جيدا... إنها ليست حنان... بل شقيقتها التوأم...

رددت العجوز مبهوتة :
ـ شقيقتها التوأم؟!

هز نبيل رأسه مؤكدا :
ـ نعم توأمها التي كانت تعيش مع والدها في فرنسا... تعلمين أن نجاة و نجيب انفصلا مبكرا...
ـ نعم، لكن لم أعلم أن لهما أبناء آخرين غير حنان!

ـ نجاة رحمها الله أخفت الأمر عن الجميع، لم ترد أن يذكرها أحد بابنتها
التي تخلت عنها و أخرجتها من حياتها كما أخرجت والدها... لكنني كنت أعلم، و
بقيت على اتصال بنجيب طيلة السنين الماضية... و أظن أن الوقت قد حان كي
تتعرف ليلى على بقية عائلتها...

ثم تنهد و هو يضيف :
ـ و إن كان القرار قد تأخر كثيرا... تأخر بثلاث سنوات...

تجمعت العبرات في مقلتي ليلى. لم تكن تتصور أن تكون حساسة تجاه هذا
الموضوع، فهي لم تعرف أمها و لا أحست بحاجتها إليها... والدها علمها أن
تكون قوية، أن تعتمد على نفسها... لذلك نشأت وصلتها قوية بوالدها، و ثقتها
عميقة بالله... لم تكن في حاجة إلى دافع معنوي ثالث، أو هكذا ظنت... إلى أن
جاءت إلى هنا، و تعرفت على كل هؤلاء الأشخاص الذين عرفوا والدتها و
شقيقتها التوأم... شيء ما تحرك في داخلها... و هاهي على وشك البكاء...

ـ تعالي يا ليلى... تعالي و سلمي على الخالة مريم...

أيقظها صوت خالها من أفكارها. تقدمت بخطى متعثرة إلى حيث جلست العجوز. رسمت
ابتسامة حانية على شفتيها و انحنت لتقبل رأسها. رفعت العجوز عينيها إليها
في بطء... توترت دقات قلب ليلى حين التقت عيناها بعيني الخالة مريم. رأت
فيهما معاني غريبة... شيء من الحذر... و الشك! لكن ما لبثت ملامحها أن لانت
و أخذت بكف ليلى بين كفيها و هي تقول :
ـ تعالي يا صغيرتي... كم كانت والدتك قاسية حين حرمتك من حنانها...







انشغلت الخالة مريم بإعداد فطور دسم على شرف ضيوفها... أبنائها الأحباء
الذين رزقها الله إياهم بعد أن يئست من الإنجاب، في حين جلست ليلى و منال
في الشرفة تتأملان الطبيعة الغناء و تتجاذبان أطراف الحديث. تعالى صوت أمين
من الأسفل و هو يهتف :
ـ ليلى، منال... هل تريدان الخروج في جولة؟

نظرت منال إلى ليلى متسائلة فهزت ليلى رأسها علامة للرفض بسرعة. كتمت منال ضحكتها ثم أطلت من الشرفة و هي تقول :
ـ أنا متعبة قليلا يا أمين... سأصحب ليلى في نزهة بعد الغداء... هل يمكنك الاهتمام برانيا؟ تركتها تلهو في الأسفل...

هز أمين رأسه متفهما و إن بدت عليه خيبة الأمل. أما منال فالتفتت إلى ليلى مداعبة :
ـ يبدو أنك تروقين لأمين... هل تراه ينوي الخروج من حياة العزوبية؟!

احمرت وجنتا ليلى و هي تهز حاجبيها في دهشة... أمين؟ غير معقول... مستحيل!
ضحكت منال و هي ترى وجهها قد تغير و قالت في ود :
ـ صدقيني أمين طيب جدا... قد يبدو لك جريئا، و طفوليا أحيانا... لكنه شخص رائع...

أطرقت ليلى في انزعاج... و دعت الله أن لا تكون نوايا أمين تجاهها من ذاك
النوع... سرحت في تفكيرها للحظات، في ذكريات قريبة، لم يمض عليها سوى بضعة
أسابيع، غيرت الكثير في حياتها...
انتبهت على صوت منال و هي تميل عليها غامزة :
ـ لقد رأيته منذ قليل حين أعطاك الوردة الحمراء!

تجاهلت ليلى ملاحظتها، فقد كان بالها مشغولا بفكرة أخرى خطرت لها في تلك الآونة، فبادرت منال في اهتمام :
ـ منال... أخبريني، كيف كانت علاقة أمين بحنان؟

ترددت منال للحظات و قد بوغتت بالسؤال، ثم قالت بعد تفكير قصير، كأنها تنتبه إلى أمر ما للمرة الأولى :
ـ قد يكون ما أقوله مفاجئا لك... فأمين و حنان كانا صديقين مقربين...
مقربين جدا... حتى أنني استغربت حين تزوجت حنان من فراس... لم يكن هناك شيء
يوحي بإمكانية ارتباطهما قبل أن يحصل... أو هذا ما بدا لي على الأقل...

لكن ليلى لم تفاجأ، لم تفاجأ أبدا... كان كلام منال منطقيا جدا، و منسجما
مع الانطباعات التي خلفتها لديها تصرفات كل من أمين و فراس... اهتمام أمين و
تقربه منها... و نفور فراس و انزعاجه من وجودها... أي نوع من الأزواج
كانا... فراس و حنان؟ لكن سؤالا آخر أكثر أهمية كان يتردد في ذهنها... لكن
لم يحن الأوان بعد. يجب أن تكشف كل شيء بنفسها... ركنت تساؤلاتها جانبا و
أردفت مستفسرة :
ـ و كيف كانت ردة فعل أمين تجاه زواجهما؟

كانت منال على وشك الإجابة، حين فاجأها صوت الخالة مريم و هي تقترب من مجلسهما قائلة :
ـ أين وصلت بكما الأحاديث؟

التفتت منال و ليلى إلى العجوز التي جذبت مقعدا آخر و جلست بينهما و هي تتنهد :
ـ و أخيرا انتهيت من تقطيع الخضر و وضعت القدر على النار... سأجلس معكما قليلا إلى أن تنضج الأكلة...

كانت ليلى متوترة، لسبب تجهله، فقد أخذت أصابع يدها التي استقرت في حجرها
تتقلص منكمشة على ثوبها. هل هي نظرات الخالة مريم التي أخذت تتفحصها، كأنها
تحاول سبر أغوارها... أم لهفتها لمعرفة حقيقة ما حصل مع أختها و مواصلة
حديثها مع منال الذي قاطعته الخالة للتو؟

رفعت عينيها لتواجه العجوز في تحد و كأنها تقول : لست خائفة منك... حدقي بي مثلما تشائين!
لكنها دهشت حين وجدتها ترنو إليها بعينين دامعتين، فبادرتها في اهتمام :
ـ خالتي... هل أنت على ما يرام؟

ابتسمت مريم و هي تهز رأسها و تمسح العبرات من عينيها و قالت بصوت مخنوق :
ـ تذكرت أختك المسكينة... و نهايتها التعيسة...

قاطعتها منال في سرعة و حزم :
ـ أرجوك يا خالتي... لا داعي لإثارة هذا الموضوع!

رددت ليلى بصرها بينهما في حيرة و قلق :
ـ نهايتها التعيسة؟ أخبراني... كيف ماتت حنان؟

كان الصمت المطبق هو الجواب الوحيد على تساؤلها... لكنها ألحت بشدة :
ـ أرجوكما... لا تخفيا عني شيئا... أريد أن أعرف!

حدجت منال الخالة مريم بنظرة تأنيب للورطة التي وضعتها فيها... في حين هزت
الخالة مريم كتفيها في استهانة، و لسان حالها يقول : يجب أن تعلم، كان ذلك
عاجلا أم آجلا... تنحنحت منال و هي تقول أخيرا :
ـ عمي نبيل لم يكن يريدك أن تعلمي بما حصل، لأن الحادث كان مأساويا و أثر
فينا جميعا لوقت طويل... حنان... اختارت أن تضع حدا لحياتها... حنان...
انتحرت...

تجمدت نظرات ليلى و لم يبد على ملامحها أي انفعال بعد أن نطقت منال بكلمتها
الأخيرة. هل كانت تتوقع ذلك؟ ليس بالضبط... لكن حديث والدها الغامض عن
حادثة وفاتها... و تأثر فراس الشديد بالحادثة... كل ذلك يشير إلى أن وفاتها
لم تكن طبيعية، لم تكن طبيعية أبدا...

واصلت منال :
ـ لم تكن حنان من النوع الذي يبدو عليه اليأس من الحياة إلى درجة التفكير
في الانتحار... لكنها مرت بفترة اكتئاب في بداية حملها... كانت فتاة مرحة و
منطلقة، حتى أنني كنت أحسدها على السعادة التي هي فيها... غفر الله لي...
فهي كانت زوجة فراس، أحب أبناء عمي نبيل إلى قلبه، و ابنة أخته الوحيدة...
أو هذا ما كنت أظنه في تلك الفترة... لذلك فهي كانت مدللة من الجميع...
كانت كل الهدايا لها... و حتى قبل زواجها، فقد كانت الغرفة الزرقاء لها...

قاطعتها ليلى في استغراب :
ـ الغرفة الزرقاء؟

هزت منال رأسها في تأكيد :
ـ نعم، الغرفة التي تقيمين فيها حاليا... إنها تسمى الغرفة الزرقاء... الغرفة الخاصة لمالكة القصر الأولى...

وافقتها ليلى و هي تتذكر ما قاله أمين عن الطابع الغامض للغرفة. و تابعت منال :
ـ كانت غرفة مميزة... و كانت هناك حكايا غريبة يتناقلها الخدم حول أسرار
أخفتها السيدة هاجر هناك... والدة ياسين، زوجي... لأنها كانت غرفة مغلقة
معظم الوقت، منذ وفاة السيدة هاجر فيها... لكن بالنسبة للجميع فإن تميزها
أتى من تمييز صاحبة القصر لها و اهتمامها بتنظيفها باستمرار و الحفاظ على
اللون الأزرق فيها... الذي كان اللون المفضل لديها...

تدخلت الخالة مريم بصوت هادئ عميق و قد سرحت نظراتها إلى خارج الشرفة، بعيدا إلى الذكريات :
ـ رحمها الله... كانت امرأة قوية... و كان كل ما يحيط بها مميزا... عرفتها
في بداية شبابها، حين جاءت إلى القصر للمرة الأولى، بعد زواجها من صاحبه،
السيد محمود عبد الرحمان... كل الأملاك التي ترينها هنا، القصر الكبير و
الشركة، كلها ورثتها هاجر عن محمود...

اقتربت العجوز من ليلى و همست في أذنها :
ـ نبيل كان سليل عائلة عريقة، لكن من دون ثروة... هاجر كانت تملك الثروة
التي يطمح إليها، لكنها كانت قد تجاوزت سن الشباب حين عرفها، توفي عنها
زوجها و لم يكن لديها أطفال منه... و نبيل كان شابا طموحا، فتزوجها
أرملة... كان يعمل في شركة زوجها، رآها للمرة الأولى بعد وفاته، حيث اضطرت
إلى النزول إلى ساحة العمل لمتابعة أعمال زوجها الراحل... و تم كل شيء
بسرعة... تبادل مصالح، هي كانت بحاجة إلى رجل، رجل يدير الشركة و الأملاك و
يسد الفراغ الذي خلفه رحيل محمود في حياتها... و هو كان في حاجة إلى
المال... و زوجة ذكية...

توقفت العجوز كأنها تذكرت شيئا ثم أضافت :
ـ إيمان كانت تطمع في الحصول على الغرفة الزرقاء... لكن نبيل لم يرض!

سألت ليلى في اهتمام :
ـ من هي إيمان؟

أجابتها منال بصوت خافت، إذ أن مريم بدت مركزة مع ذكرياتها فلم تنتبه إلى ليلى :
ـ إيمان هي زوجة عمي نبيل الثانية... والدة فراس و أمين...

واصلت خالة مريم بنفس الصوت العميق :
ـ إيمان كانت تغار من هاجر... تغار من خيالها الذي كان يسكن كل بقعة من
القصر، و خاصة الغرفة الزرقاء... نبيل كان وفيا لهاجر رغم زواجه الثاني...
أغلق الغرفة الزرقاء حفاظا على ذكراها، مما أثار غيظ إيمان و سخطها... كان
يدخل إليها بين الفينة و الأخرى و يظل وحيدا... نوع من الاعتكاف... و حين
يخرج منها يكون وجهه متغيرا، كمن رأى شبحا... بل كأنه كان يناجي طيفها!

همست منال ليلى من جديد :
ـ لا تصدقي كل الخرافات التي تقصها العجائز... عمي كان يحب الاختلاء بنفسه
بين الحين و الآخر، و الغرفة الزرقاء كانت مناسبة لأنه لا أحد يدخلها
غيره... كان يحتفظ هنالك بملفات و أوراق كثيرة، بعيدا عن الأعين... ملفات
أعمال... تعلمين...

هزت ليلى رأسها متفهمة، و فوجئت منال بالخالة مريم تقرص أذنها بغتة و هي تهتف :
ـ أعلم أنك تشككين في روايتي... أيتها الشقية!

تخلصت منال من قبضة الخالة و هي تتأوه في ألم و هتفت بدورها :
ـ كنت أظنك مركزة في الحكاية!

ثم وقفت لتغادر الشرفة و هي تقول :
ـ سأذهب لأتفقد رانيا... أراكما فيما بعد!

لوحت منال لليلى بيدها و غادرت المكان مهرولة لتنجو بجلدها من تعليقات العجوز اللاذعة
ابتسمت ليلى و هي تخاطب الخالة مريم في اهتمام :
ـ و ماذا عن أمي... حدثيني عنها!

تجهم وجه العجوز و بدا عليها التردد، لكنها قالت أخيرا و هي تحد من نظراتها :
ـ نجاة كانت شخصية عنيدة و عصبية... رحمها الله!

ابتسمت ليلى في حزن... لم يكن كلامها غريبا عنها، فوالدها أيضا وصفها بهاته
الطباع، محاولا تبرير انفصالهما... من الواضح أنها لم تكن محبوبة، حتى من
الخدم و المربية!
قطع حديثهما صوت ياسين القادم من الداخل :
ـ ألم يجهز الطعام بعد؟ إني أتضور جوعا!

استأذنت الخالة و قامت لتقدم لياسين بعض المقبلات في انتظار طعام الغداء...
أما ليلى، فقد وضعت رأسها بين كفيها و سرحت بعيدا... تفكر في كل الأسرار
التي تريد اكتشافها، و كل الغموض الذي يلف ماضي عائلتها... فهل من معين؟
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
http://habibhiati.co.cc.org
 
رواية يا قاتلي، أين المفر...؟)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» رواية نوح الحمام
» رواية بنت الثانوية
» رواية إرادة رجل
»  رواية - انا الشموخ ومارضيت البهاذيل كسرت خشم الوقت من قو ذاتي
» رواية:آسف على الجروح بودعك بمشي واروح مااقدر اجامل خاطري والدمع يسكن ناظري

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات حبيب حياتي :: منتديات أدبية :: قصـص وروايات-
انتقل الى: